الصحافة وسحر الحبر الأسود      

   La Presse Et Le Magie De L'encre noir

بدأت مناقشة مواد العدد العاشر بالافتتاحية. يتناوب على كتابة الافتتاحية عادة تحت شعار: "بلا رياء" المديرة المسؤولة ورئيسة التحرير وسكرتير التحرير. كانت افتتاحية هذا العدد لعبد الحفيظ سكرتير التحرير. قرأها علينا بصوته الجهوري المعبرّ، وهي كما قال تذكير للقراء بخط الجريدة الذي التزمت به في أعدادها العشرة، واعتمدت بالإجماع وهي بعنوان " سحر الحبر الأسود":

" ما السحر الذي يجعل من بقع الحبر الأسود الكالحة فوق الورق الأبيض والأسمر قناديل مضيئة تطرد عتمة الجهل والكره والتعصب، وجسور محبة بين الناس على اختلاف أعراقهم  ومعتقداتهم وجهاتهم وطبقاتهم؟ أو يجعل منها أنيابا قاطعة وأظافر حادة وإبرا لاسعة وبنادق وسكاكين وفكوكا مفترسة؟)

ما السحر الذي يجعل الصحفي الحاوي يدخل زجاجة الحبر في قبعته فيخرجها ورودا وزهورا، ويجعل صحفيا آخر يخرجها ثعابين وخفافيش وأفاعي ؟

إنها القلوب العامرة بالحب للإنسان، المؤمنة بالمساواة بين البشر والطافحة بالتسامح الديني  والعرقي أو تلك القلوب المفعمة بالكره والأنانية وحب الذات والتعصب العرقي والطائفي.

هذا الكم الهائل من الحبر الأسود مما يسفح كل يوم على ملايين الأطنان من الورق الأبيض والأسود في العالم لا يساوي شيئا بذاته ما لم يمزجه الصحفي بدم قلبه فيتحول إما إلى هذا وإما إلى ذاك. الصحفيون هم السحرة الخيّرون الذين يمارسون السحر الأبيض الذي يرقى بالإنسان والإنسانية ويفتح لها طريق الحب والأمن والسلام أو هم السحرة الشريرون الذين يمارسون السحر الأسود الذي يحول الحبر إلى مناشير تدعو إلى الكره والبغضاء، وإلى غابة مخيفة يتقاتل فيها الناس وتتصادم فيها الحضارات والأديان، وتشتعل فيها نيران الفتن العنصرية والجهوية في كل مكان.

عهد علينا أن نحول الحبر الأسود في جريدتنا إلى قناديل مضيئة وجسور محبة، وميثاق تسامح وطني وقومي وإنساني."

همست" كرمين" في إذني: " جعلنا عبد الحفيظ سحرة حواة، لو كنا سحرة حواة حقا لحولنا الحبر الأسود إلى دولارات، لا إلى ورود وزهور" غلبني الضحك.

دقت رئيسة التحرير على الطاولة ونظرت إلينا شزرا. قالت  كرمين همسا دون أن تلتفت إليّ :  ماذا تريد هذه البالونة المنفوخة؟ 

كانت رئيسة التحرير فعلا تشبه بالونة منفوخة فجسمها متضخم من كل الجوانب، ووجهها ورقبتها أيضا منفوختان من السمنة المفرطة، وأردفت كرمين :

" لوْ وَخزتها بدبوس لخرج الهواء الفاسد منها، ولأصبحت رقيقة وإنسانة عادية مثلنا"

غلبني الضحك مرة أخرى وأنا أتصور كيف يمكن أن يحدث ذلك. من حسن الحظ أن ساطع عبد الحسين  الصحفي العراقي بجانبها كان ثقيل السمع فقد جاوز الستين ولعل عذابيْ السجن والغربة  كما سمعنا جعلاه يبدو في الثمانين، وهو مع ذلك  لم يتعود بعد اللهجة الجزائرية. قالت كرمين:

-    " ماذا نخسر دعنا نجرب. معي دبوس. هل تخزها أنت أم أنا ؟"

نظرت إلينا زبيدة مرة أخرى من خلال نظارتها السميكة ووجهها الأحمر يكاد يتفجر الدم منه سمنة وغيظا.

     عرض " سليمان" رسمي الكاريكاتير المصاحبين للافتتاحية. الأول يمثل حاويا بوجه باسم يدخل في قبعته زجاجة كبيرة كتب عليها " حبر أسود"  ثم يقلب القبعة فيخرج منها ورودا وزهورا وقناديل مضيئة وكتب تحت الرسم:" الصحفي الإنسان" والرسم الثاني  يمثل حاويا  يشبه " دراكيولا" بأنياب طويلة حادة، يدخل في قبعته الزجاجة نفسها ثم يقلبها فيخرج منها عقارب وأفاع وسكاكين ومسدسات. وكتب تحتها:    "الصحفي الشيطان" .

وبالمناسبة " سليمان" هذا هو نفسه رسام "صوت المواطن" باللغة الفرنسية، وهو فنان  يرسم لك ما تريد على هواك. فإذا تركته على هواه يتجاوز كل الخطوط الحمراء السياسية والدينية والأخلاقية، فهو لا يؤمن بأي قيمة سوى الفن. ويعتبر تجاوزاته هذه نضالا في معركة التنوير. وكثيرا ما تعرّض للسجن، وعرّض الجريدة التي يعمل فيها للإغلاق لخرقه كل الطابوهات. وغالبا ما ينجز رسومه في الحانة. يقولون: " إن رسومه تدوّخ" لأنه يمزجها بالخمر التي يعاقرها. لكن جريدتنا لا تتركه يرسم على هواه  بل على هوى الخط الذي رسمته لنفسها.

                             عبد الله خمّار               

                            من رواية "حب في قاعة التحرير"                      

 الورقة الأولى: أعداء الحب